علاج الأوعية الدموية

في زمن تتسارع فيه عجلة الطب، وتتجدد فيه أدوات العلاج بشكل يكاد يوازي سرعة نبض الإنسان، يقف المريض – ومعه الطبيب – أمام مفترق طرق كلما طرأ الحديث عن “علاج الأوعية الدموية”. بين الجراحة المفتوحة، التي طالما كانت درع الطب الأول لعقود، والتدخل المحدود، الذي بزغ نجمه في السنوات الأخيرة، تظل الحيرة مشروعة، ويظل السؤال ملحًّا: أيهما أفضل؟ وأيهما يضمن أمان المريض وفاعلية العلاج؟

الجراحة في الذاكرة والتقنيات الحديثة

لطالما ارتبطت كلمة “جراحة” في الوعي الجمعي بصورة مشرطٍ وشقٍّ جلديٍّ طويل، وغرفة عمليات مكتظة بأجهزة معقّدة، ونقاهة تطول، وربما ألم لا يُحتمل. أما في السنوات الأخيرة، فقد جاء التدخل المحدود، أو ما يعرف طبيًا بـ”التقنيات التداخلية الوعائية”، كمنقذ لا يحتاج إلى شقٍّ عميق ولا تخديرٍ كلي، بل يُعالج ما خفي داخل الجسم من علل عبر فتحة صغيرة لا تتجاوز عدة مليمترات. ومع هذا التقدم، بدأت تتقلص المسافة بين التشخيص والعلاج، وتضيق الهوة بين المرض والشفاء.

توازن القرار: التقنية أم الكلاسيكية؟

لكن الحقيقة الأهم التي يجب أن تُقال – بعيدًا عن الانبهار الأعمى بالتقنية أو التمسك العاطفي بالجراحة التقليدية – هي أن كلا الطريقتين، الجراحة والتدخل المحدود، لهما مكانتهما، ولهما ضرورات تحكمها معطيات طبية لا تقبل الاجتهاد. فليس كل انسداد في شريانٍ ما يُعالج بقسطرة، وليس كل مريضٍ يمكنه تحمّل مشرط الجراح.

حالات الانسداد الطرفي: بداية التقييم

في حالات الانسداد الشرياني الطرفي مثلًا، والتي تُعد من أكثر مشكلات الأوعية شيوعًا، نجد أن المريض قد يعاني من آلام مستمرة في القدم عند المشي، أو تغير لون الجلد، أو تقرّحات لا تلتئم. هنا، يبدأ تقييم الحالة، ويُطرح السؤال الجوهري: هل تكفي القسطرة وتوسيع الشريان بالبالون؟ أم أن الحالة تستوجب جراحة موسّعة لإزالة الانسداد أو تجاوز الجزء المصاب بتحويل دموي؟

متى يكون التدخل المحدود هو الخيار الأمثل؟

التدخل المحدود غالبًا ما يكون هو الخيار الأمثل في المرضى من كبار السن، أو أولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة مثل السكري أو ارتفاع ضغط الدم، والذين قد يكون التخدير الكلي لهم خطرًا بحد ذاته. هؤلاء المرضى، بتقدم أعمارهم وتعقيد حالتهم الصحية، لا يحتملون فترات نقاهة طويلة أو مضاعفات جراحية قد تؤخر شفاؤهم وتؤثر على جودة حياتهم. أما التقنية التداخلية، فتُقدَّم لهم بوصفها فرصة ثمينة لعلاج آمن، دون الخضوع لعملية كبرى.

متى تكون الجراحة ضرورة لا مفر منها؟

وفي المقابل، ثمة حالات لا يكفي فيها التدخل المحدود مهما تطورت أدواته. حين يكون الانسداد طويلًا ومعقدًا، أو حين يكون الشريان قد فقد مرونته تمامًا بسبب التكلسات أو التليف، لا بد من العودة إلى الجراحة المفتوحة. هناك، تحت ضوء الجراحة المباشر، يستطيع الطبيب أن يرى بأم عينيه موضع المشكلة، ويقوم بإصلاحات دقيقة، قد لا تتاح للقسطرة مهما بلغت من دقة.

القرار الجماعي: مبدأ الطب الحديث

لكن ما يُحمد في الطب الحديث أنه لم يعد يترك القرار لطبيب واحد ولا لرأي فردي. بل باتت المستشفيات الكبرى تعتمد على ما يسمى بـ”القرار الجماعي”، حيث يجتمع طبيب الأوعية، وطبيب الأشعة التداخلية، وربما طبيب القلب، ويتناقش الجميع في تفاصيل الحالة؛ في صورة تشبه إلى حدٍّ بعيد غرفة نقاش علمية مصغّرة، تكون فيها مصلحة المريض هي البوصلة والهدف.

تفاصيل المريض: عامل حاسم في اختيار العلاج

وتجدر الإشارة هنا إلى أن اختيار نوع التدخل لا يتعلق فقط بمكان الانسداد، بل كذلك بطبيعة الأوعية المحيطة، وسرعة تدفق الدم، بل وحتى نمط حياة المريض وعمله اليومي. عاملٌ بسيط، كأن يكون المريض مزارعًا يتحرك كثيرًا، قد يجعلنا نفضّل دعامة معينة على أخرى. وتفصيلة مثل وجود جلطة سابقة في الساق قد تغير الخطة بالكامل. الطب، كما يقال، هو فن التفاصيل، وكل مريض هو حالة فريدة لا تُقارن بغيرها.

التجربة المصرية: دمج الحكمة والخبرة

في مصر، ومع التقدم الملحوظ في مجال الأشعة التداخلية، برزت أسماء رائدة مثل الأستاذ الدكتور أيمن عبد الفتاح، الذي قدّم نموذجًا ناجحًا يجمع بين الفهم العميق للمرض، والخبرة التكنولوجية الدقيقة في اختيار نوع التدخل. ولعلّ أبرز ما يميز المدرسة المصرية المعاصرة في علاج الأوعية هو ذلك المزج الذكي بين الجراحة الكلاسيكية عند الحاجة، والتدخل الدقيق حينما يكون هو الأفضل.

لا حلول سحرية: الواقعية الطبية أولاً

ومع ذلك، ينبغي ألا يُنظر إلى التدخل المحدود كعصا سحرية تحل كل الأزمات. فنجاحه مرهون باختيار التوقيت الصحيح، والطبيب المؤهل، والتجهيزات الدقيقة. كما أن الجراحة المفتوحة، رغم مشقتها، تظل أحيانًا السبيل الوحيد لإنقاذ الأطراف أو الحياة.

الطب فن التفاصيل والمريض هو الغاية

في النهاية، لا توجد طريقة أفضل بالمطلق، بل توجد طريقة أنسب لكل مريض، ولكل ظرف، ولكل لحظة. وحين يتعاون الطبيب والمريض على فهم الحالة، وطرح الخيارات، ومقارنة المميزات والعيوب بصدق وشفافية، يكون القرار نابعًا من وعي، لا من خوف، ومن علم، لا من انطباع مسبق.

الطب لا يتقدم حين نتمسك بتقليديته، ولا حين ننبهر بكل جديد، بل حين نضع كل أداة في مكانها الصحيح. وبين مشرط الجراح ونبض القسطرة، يظل المريض هو الغاية، وشفاؤه هو السبيل.

 

نبذة عن الأستاذ الدكتور أيمن عبد الفتاح:

الأستاذ الدكتور أيمن عبد الفتاح هو أستاذ جراحة الأوعية الدموية والقسطرة الطرفية بكلية الطب جامعة عين شمس. حصل على بكالوريوس الطب من جامعة عين شمس عام 1993، ثم نال درجة الماجستير في الجراحة عام 1998، والدكتوراه في الجراحة عام 2001. كما حصل على زمالة جامعة بريست في فرنسا عام 2007، وزمالة كلية الجراحين الملكية في لندن عام 2008. شغل عدة مناصب أكاديمية وإدارية، وهو حاليًا رئيس قسم جراحة الأوعية الدموية بكلية الطب جامعة عين شمس. ​

 

تابعونا على صفحتنا لمعرفة كل جديد

 

لمعرفة خدمات العيادات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *